قوله صلى الله عليه وسلم: {وأنت الظاهر فليس فوقك شيء} أي: أن الله فوق جميع المخلوقات، وهذا هو المراد من ذكر هذا الحديث؛ إثبات الفوقية وأنه فوق جميع المخلوقات؛ فليس فوقه عز وجل شيء من مخلوقاته.
وقوله: {وأنت الباطن فليس دونك شيء} أي: فكل المخلوقات في قبضته سبحانه وتعالى؛ فلا شيء منها فوقه ولا شيء منها دونه، بل هي جميعاً في قبضته؛ كما جاء في أثر ابن عباس : [[كالخردلة في يد أحدكم]].
فعرش الرحمن أكبر من الكرسي، والكرسي من السماوات والأرض، والله فوق العرش، وهو أعظم منه وأعظم من المخلوقات جميعاً.
فالأسماء الأربعة التي وردت في الحديث -وهي من أسماء الله عز وجل- نفسرها كما فسرها النبي صلى الله عليه وسلم، وهي في مجموعها تدل على الإحاطة، فالله محيط بخلقه مكاناً وزماناً وعلواً وغلبة وقهراً: ((قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا))[الطلاق:12]، وهو محيط أيضاً إحاطة علو وإحاطة زمان بالأزلية والأبدية.
يقول المصنف: [والمراد بالظهور هنا: العلو، ومنه قوله تعالى: ((فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ))[الكهف:97] أي: يعلوه] الواو ضمير يعود إلى يأجوج ومأجوج، والهاء تعود إلى السد أو الردم الذي بناه ذو القرنين، أي: لم يستطيعوا أن ينقبوه، أو يظهروا عليه أي: يعلوه ويظهروا من فوقه، فهو فوقهم.
والشارح يريد بذلك الرد على من قال من العلماء أن المقصود بالظاهر هو: الواضح الذي لا يحتاج إلى أن يستدل عليه، والباطن: الخفي الذي لا يراه أحد ولا يعلم صفته أحد، والمعنى حق في ذاته ولا شك في ذلك، لكن ليس هو المعنى الراجح والمناسب لما ورد في هذا الحديث، فالمعنى المختار هو ما ذكره المصنف هنا تبعاً لما ذكره ابن القيم رحمه الله، وذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في الرسالة العرشية وفي غيرها، وإن كان هذا المعنى أيضاً حقا،ً وهو كونه سبحانه وتعالى ظاهراً، بمعنى: أنه لا يحتاج إلى أن يستدل على وجوده، ولا شك أن الأدلة واردة، لكن لا ترد الأدلة لإثبات أمر غائب، بل لتأكيد أمر مقرر، كما سبق أن أوضحنا الأدلة على وجود الله وصفاته وكماله، وأنها من باب تقرير شيء موجود مقرر في الفطر، ولذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية في قوله تعالى: "((أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ))[فصلت:53]: إن العلماء بالله والعارفين به يستشهدون بالله على خلقه" أي: إذا شك أحد في عدم وجود السماء كما تزعم الآن النظرية التي تقول: السماء إنما هي فراغ فقط وليس فيها شيء -فنحن نستشهد بالله على خلقه؛ فبما أن الله ذكر السماء في القرآن- فالسماء موجودة ولها حقيقة.
وإذا ذكر الله الجبال، فالجبال حقيقة وهذا كلام أهل اليقين والمعرفة، يقولون: إننا آمنا بالله وهو لا يقبل الشك، فلما أخبرنا عن أشياء علمنا أن هذه الأشياء لا تقبل الشك أبداً فأثبتناها.
فهذا استدلال هؤلاء الذين علت درجتهم في اليقين والإيمان، ولا يمنع ذلك من الاستدلال على الله بما بث في الأنفس والآفاق من مخلوقات؛ لكن يستدل به سبحانه وتعالى على سائر خلقه؛ فمن هذا الباب يكون ظهوره سبحانه وتعالى، فهو أجلى وأظهر ما يؤمن به العقل، ويستيقن به القلب من الموجودات؛ فكل شيء قد يُجَادَل فيه وقد يقبل الشك إلا وجوده سبحانه وتعالى، فلا يجادل فيه ولا يقبل الشك بأي حال من الأحوال.
ولو أنكر الإنسان وجود الجبال أو الأرض أو الشمس أو الماء، لكان ذلك أقرب للإمكان من أن يقول: إن الله غير موجود -تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً- فالشاهد من هذا هو بيان مقصود بعض العلماء بقولهم: (الظاهر) هو الواضح الذي لا يحتاج إلى أن يستدل عليه، ومع كمال ظهوره سبحانه وتعالى فهو أيضاً (الباطن) الذي لا تعلم صفاته ولا يدرك أحد ذاته، فقالوا: هذا هو معنى الظاهر والباطن، وهذا المعنى حق، وإن كان الأرجح هو المعنى الأول.